+20225161519 [email protected]

المتأمل لواقعنا الحياتي فردياً ومجتمعياً وإقليمياً ودولياً، يجد أننا نعيش بين فكي رحى مصطلحين يشكلان مساراً رئيسياً للحياة.. الأول هو الجدال، والثاني هو البراجماتية. والجدال هو حالة الصراع حول فكرة أو رأي، وحرص كل طرف في التقليل أول الإنتصار لها، فيتحول الموضوع إلى مسألة شخصية ويخرج عن مساره وتضيع الحقيقة والقيمة، والجدال ينتج أساساً عن وعي ناقص لمعنى النقاش، ومن ثم البحث دوماً عن إثبات الذات بحق وبدونه.

والبراجماتية هي في الأساس مصطلح سياسي يقصد به النفعية، أوتغليب الجانب العملي على النظري، والجانب النفعي على المبادئ.

ويشير جون ديوي ووليام جيمس وهم من الفلاسفة الأمريكيين الذين كانوا من رواد الفلسفة البراجماتية في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، يشير هؤلاء الفلاسفة إلى أنه لا يمكن التوصل إلى معاني الأفكار، ومن ثم لايجب تفسيرها، إلا بالنظر إلى النتائج المترتبة عليها، كما أنه لا يمكن تحديد المعتقدات أو تبرير التمسك بها إلا بالأخذ في الإعتبار النتائج العملية المترتبة على الإيمان بهذه المعتقدات.. فالحقيقة إذن ثانوية إذا ما قورنت بالممارسة العملية. وإذا ما دققنا النظر سنجد أننا أسرى هذين المصطلحين والأمثلة كثيرة، وآخرها ما حدث من انسحاب أمريكا من اتفاقية باريس للتغيرات المناخية.

فهذا الإتفاق ما كان ليتحقق في ديسمبر 2015 بدون توفر إرادة أمريكية قوية آنذاك، حيث قام الرئيس السابق أوباما بدور أساسي ومحوري في تحقيق الإجماع  العالمي على هذه القضية وإقناع باقي الأطراف بها وخاصة الملوثين الكبار كالصين والهند وروسيا.

إلا أن الجدال داخل أمريكا بين مؤيد لفكرة وحقيقة التغيرات المناخية، وآخرين يقللون من شأنها وينفونها رغم أنها ثابتة علمياً، هذا الجدال علاوة على تغليب المصالح الإقتصادية الضيقة والتي تجسد منتهى البراجماتية النفعية هما ما دفعا بالرئيس الأمريكي ترامب لإعلان إنسحابه من هذه الإتفاقية العالمية الهامة جداً ضارباً عرض الحائط بكافة المخاطر التي ستنجم عن انسحاب بلاده الملوث الأكبر عالمياً.

ويلوح في منطق ترامب النفعي الإصرار على مواقف تبدو مغايرة للواقع والحقيقة فيما يتعلق بإتفاقية باريس لمكافحة تغير المناخ، حيث قلل على سبيل المثال من تأثير الإلتزام بها على تغير المناخ، مؤكداً أنه ضئيل جداً، بالمخالفة لما يدفع به الإجماع العلمي بأن تحقيق الأهداف المرجوة من الإتفاقية وإن كان ليس كافياً لوقف تأثيرات تغير المناخ فإنه حيوي وضروري ويمثل خطوة لا غنى عنها لإنقاذ العالم من تداعياته السلبية.

وخلافاً لما سبق يصر ترامب على أن الإلتزام بالإتفاقية يتسبب في خسارة الإقتصاد الأمريكي الكثير من الوظائف بسبب الإشتراطات البيئية، خاصة فيما يتعلق بقطاع إنتاج الفحم والذي يتركز في الولايات التي مثلت قاعدته الإنتخابية، متجاهلاً حقائق متعددة متعلقة بهذا البعد، منها أن عدد الوظائف التي يوفرها قطاع الطاقة البديلة في الولايات المتحدة يمثل حوالي 3 أضعاف عدد الوظائف التي يوفرها قطاع إنتاج الفحم، وأنه القطاع النامي الأول في العالم بسبب زيادة الإعتماد عالمياً على الطاقة المتجددة، وتراجع استخدام الفحم عالمياً.

إنها البراجماتية النفعية الضيقة التي لا ترى حقيقة الأشياء بل نتائجها العملية الآنية الضيقة، وسيسفر هذا عن إنزواء أمريكا شاءت أم أبت وستحتل دول أخرى موقع الصدارة في قيادة العالم في مواجهة التغيرات المناخية مثل الصين و أوروبا، وأعتقد أن الخاسر الأكبر سيكون أمريكا نفسها.

هذا على المستوى الأممي، أما على المستوى الشخصي فالحوار في داخل نفوسنا دوماً ما يحتدم مع زيادة مستوى الصراعات النفسية الناجمة عن تلاطم العديد من المتناقضات التي تؤدي في النهاية إلى تحول هذا الحوار إلى جدل يفقدنا بوصلتنا إلى الحقائق المجردة والإبتعاد عنها تحت وطأة الكثير والكثير من ضغوط الحياة.

وبالتبعية تغلب المصلحة البارجماتية النفعية في تبني خيارات قد تبتعد بنا عن مرفأ الحقيقة لكنها تحقق مصالح  ومنافع قد نتوائم بها شكلياً مع مجتمع ضاغط على نفوسنا، لكننا نبتعد بها عن ذواتنا ولو مؤقتاً.

وستبقى الحياة بيئة خصبة لتصارع الأفكار على ساحتها، والأمل كل الأمل أن نعي ما ينفعنا ولا يضرنا وفي نفس الوقت يحقق لنا التوازن الداخلي الذي يؤمن لنا على الأقل التلامس مع الحقيقة التي بدونها نضل الطريق.